مساحةإعلانية 2
شبكة الديوانية >> محمد فوزان الفوزان >> محمد فوزان الفوزان

الزلازل بين الصلاح والفساد - محمد فوزان الفوزان

Posted 2023-02-17 at 3:14 PM by
مدير الموقع (admin)

في سنة 597 للهجرة وقع زلزال عظيم عصف باجزاء كبيرة من العراق والشام وتركيا مات فيه مئات الآلاف، وتساقطت المدن والقصور، واقتات الجوع من الناس حتى أكل بعضهم بعضا.

وقد أرخ ابن كثير في كتابه “البداية والنهاية” حادثة هذا الزلزال العظيم فكتب “في هذا العام كانت زلزلة عظيمة ابتدأت من بلاد الشام إلى الجزيرة وبلاد الروم والعراق، وكان جمهورها وعظمها بالشام، تهدمت منها دور كثيرة، وتخربت محال كثيرة، وخسف بقرية من أرض بصرى، وأما سواحل الشام وغيرها فهلك فيها شيء كثير، وخربت محال كثيرة من طرابلس وصور وعكا ونابلس.

ولم يبق بنابلس سوى حارة السامرة، ومات بها وبقراها 30 ألفا تحت الردم، وسقط طائفة كثيرة من المنارة الشرقية بدمشق بجامعها، و14 شرافة منه، وغالب الكلاسة والمارستان النوري.


وخرج الناس إلى الميادين يستغيثون وسقط غالب قلعة بعلبك مع وثاقة بنيانها، وانفرق البحر إلى قبرص وقد حذف بالمراكب منه إلى ساحله، وتعدى إلى ناحية الشرق فسقط بسبب ذلك دور كثيرة، وماتت أمم لا يحصون ولا يعدون حتى قال صاحب “مرآة الزمان” إنه مات في هذه السنة بسبب الزلزلة نحو ألف ألف ومائة ألف (أي 1.1 مليون نسمة) إنسان قتلا تحتها، وقيل إن أحدا لم يحص من مات فيها والله سبحانه أعلم”.
فهلاك أكثر من مليون إنسان في آثار هذه الرجفة كما يذكر صاحب كتاب “مرآة الزمان” هو من فواجع الخطوب، غير أن هذا الزلزال لم يكن الأول ولا الأخير في تاريخ وجغرافية المنطقة، بل عرفت منذ القدم أحداثا متشابهة، وتوالت عليها أمثاله تترى.
فكيف عرف العرب الزلازل، وكيف فسروا حدوثها؟


ترد مفردة الزلزلة في اللغة هي دلالة على الرجفة والتردد الشديد، وجاء في القرآن الكريم ضمن أشراط الساعة “إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها وقال الإنسان ما لها يومئذ تحدث أخبارها”.


كما ورد اللفظ مجازا للتعبير عن القلق والرعب والهزيمة النفسية التي تعصف بمجامع القلوب في قوله تعالى: “هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا”، وحفلت معاجم اللغة العربية بتآلف معنى الزلزلة الأصلي والمجازي مع الرجفة والتحريك الشديد والاضطراب.
ويقول تعالى: “وما نرسل بالآيات إلا تخويفا”، والثابت أن ضحايا الزلازل شهداء، ومرتبة الشهادة لها مكانة عظيمة عند الله تعالى.


يقدم إخوان الصفا في رسائلهم تفسيراً لهذه الزلازل، اذ ورد في إحدى الرسائل “إن الكهوف والمغارات والأهوية التي في جوف الأرض والجبال، إذا لم يكن لها منافذ تخرج منها المياه، بقيت تلك المياه هناك محبوسة زمانا، وإذا حمَّ باطن الأرض وجرف تلك الجبال، سخنت تلك المياه ولطفت وتحللت وصارت بخارا، وارتفعت وطلبت مكانا أوسع، فإن كانت الأرض كثيرة التخلخل، تحللت وخرجت تلك البخارات من تلك المنافذ، وإن كان ظاهر الأرض شديد التكاتف حصيفا منعها من الخروج، وبقيت محتبسة تتموج في تلك الأهوية لطلب الخروج، وربما انشقت الأرض في موضع منها، وخرجت تلك الرياح مفاجأة، وانخسف مكانها، ويسمع لها دوي وهدّة وزلزلة.


وتتقارب أغلب التأويلات التي كتبها الأطباء والجغرافيون العرب مع هذه الأسباب التي ذكرها إخوان الصفا، مع اختلافات قليلة وإضافات نسبية، ويرى ابن سينا لتقليل مخاطر الزلازل بأن الأراضي التي تكثر فيها الزلازل إذا كثر فيها حفر الآبار وشق القنوات، قلل ذلك من خطر رجفات الزلازل.


وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “الزلازل من الآيات التي يخوف الله بها عباده، كما يخوفهم بالكسوف وغيره من الآيات، والحوادث لها أسباب وحكم، فكونها آية يخوف الله بها عباده هي من حكمة ذلك. وأما أسبابه: فمن أسبابه انضغاط البخار في جوف الأرض، كما ينضغط الريح والماء في المكان الضيق، فإذا انضغط طلب مخرجا، فيشق ويزلزل ما قرب منه من الأرض.


ويحرص بعض العلماء على التأكيد على أن لا تناقض بين الأسباب العلمية للزلازل وغيرها من الظواهر الكونية مثل الخسوف والكسوف والبراكين، وبين الحكمة التي أرادها الله من تلك الظواهر والآيات، باعتبارها إنذارا وتخويفا لعباده.


والزلازل هي ابتلاء للصالحين وعقوبة للفاسدين، وجاء في الحديث: “إن الله إذا أحب عبدًا ابتلاه”، والنبي يقول: “أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل”، وقالَ رَسُولُ الله: “الشُّهَدَاءُ خَمسَةٌ: المَطعُونُ، وَالمبْطُونُ، والغَرِيقُ، وَصَاحبُ الهَدْم وَالشَّهيدُ في سبيل اللَّه”
(متفقٌ عليهِ).


إن مثل هذه المصائب تكثر أحياناً في ثقافة وعظية يذهب جلها في نقل نصوص معينة تسير في اتجاه واحد، وهو معيار أن مثل هذه المصائب تأتي بناء على ذنوب ومعاصي العباد، وهو منهج غير صائب دائما، لأن الظواهر الكونية لا ترتبط بصلاح الناس أو فسادهم، بل ترتبط بسنن الله في الكون، فالزلازل والبراكين تقع في بلدان مسلمة وغير مسلمة، والمرض والموت والبلاء يصيب المؤمن وغير المؤمن.


أسال الله تعالى أن يرحم الشهداء ويشفي الجرحى ويربط على قلوب ذويهم بالصبر والسلوان








العضوالمشاركة